خدمة العلم: بوابة لتعزيز الهوية الوطنية وبناء الإنسان الأردني في مئوية الدولة الثانية
إن إعادة تفعيل برنامج خدمة العلم بقرار وتوجيه من صاحب السمو الملكي الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، ولي العهد المعظم، يمثل لحظة فارقة في تاريخ الأردن، حيث تتلاقى الإرادة السياسية مع الطموح الوطني في صياغة مشروع شامل يسعى إلى إعادة تشكيل الشخصية الأردنية، وصقل قيم الانضباط، وترسيخ الهوية الجامعة، وإعداد الشباب لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
من منظور سياسي، يحمل هذا القرار رسالة سيادية قوية تؤكد أن الأردن ماضٍ في حماية أمنه الوطني وبناء جيل قادر على الدفاع عن الوطن وصون مكتسباته، فهذا البرنامج ليس مجرد تدريب عسكري، بل هو رافعة لتعزيز الدولة القوية القادرة، القريبة من شعبها، والحريصة على تمتين عقدها الاجتماعي مع مواطنيها، حيث يجتمع الشباب من مختلف الأصول تحت راية الجيش العربي المصطفوي، ليصبحوا شركاء في حماية الوطن واستدامة سيادته.
وعلى الصعيد الاجتماعي، تشكل خدمة العلم أداة استراتيجية لإعادة بناء منظومة القيم في المجتمع، إذ تغرس روح الالتزام والانضباط، وتقوي ثقافة العمل الجماعي، وتفتح آفاقًا للتلاقي بين أبناء الوطن الواحد على قاعدة المساواة والاحترام المتبادل، فهي مختبر وطني لإعادة إنتاج الثقافة المدنية وقيم المواطنة الفاعلة.
وفي بعدها الصحي والمهني، يكتسب البرنامج أهمية خاصة، فالمجتمعات التي تعتمد على شبابها المنضبط والمؤهل تكون أكثر قدرة على مواجهة الأزمات الصحية، كما شهدنا خلال جائحة كورونا، لذلك يجب ان يتم إدراج الخدمات الصحية كمكون أساسي في البرنامج، ليصبح الشباب ليسوا فقط مدافعين عن الوطن، بل أيضًا حماة لصحة المجتمع ، بحيث يتلقى المشاركون تدريبًا عمليًا على الإسعافات الأولية، الإنعاش القلبي الرئوي، ومهارات التمريض الأساسية، كما يجب ان يشمل البرنامج التثقيف الصحي حول الوقاية من الأمراض، التغذية، النظافة، ومكافحة العدوى، ما يعزز صحة المجتمع ويخفف الأعباء عن المرافق الصحية.
نظرًا لأن المدارس والجامعات تمثلان الأساس المتين في تشكيل وعي الشباب وصقل شخصياتهم الوطنية والفكرية والسلوكية منذ المراحل المبكرة للتعليم، فإنه من الضروري أن تُدمج ثقافة خدمة العلم في المناهج الدراسية على جميع المستويات التعليمية، بدءًا من المرحلة المدرسية وصولاً إلى التعليم الجامعي، ففي المدارس يمكن تصميم مواد وبرامج تعليمية وتربوية تهدف إلى تعريف الطلاب بأهمية خدمة الوطن، وغرس قيم الانضباط، والعمل الجماعي، والمواطنة الفاعلة،لان هذه المبادرات تهيئ الطلاب منذ صغرهم ليكونوا مواطنين واعين، قادرين على المشاركة الإيجابية في المجتمع والمساهمة في حماية مصالح الوطن.
أما في الجامعات، فتتاح الفرصة لتقديم برامج أكاديمية معترف بها تربط المعرفة النظرية بالخبرة العملية، وتتيح استثمار التخصصات الفردية والخبرات المتنوعة لكل مشارك، فالشباب يأتون من خلفيات مختلفة—صحية، تعليمية، تقنية، إدارية، أو قيادية—ويمكن توظيف مهاراتهم أثناء فترة الخدمة لتعظيم أثر البرنامج على المجتمع. فمثلاً، الطلاب المتخصصون في المجال الصحي يمكن تدريبهم لدعم المراكز الصحية والمستشفيات، فيما يمكن للمتخصصين في الإدارة أو التكنولوجيا المشاركة في تنظيم العمليات، إدارة المعلومات، وتطوير المبادرات المبتكرة. هذا التكامل بين التعليم والخبرة العملية لا يعزز فقط كفاءة المشاركين ومهاراتهم العملية، بل يجعلهم شركاء حقيقيين في خدمة المجتمع خلال فترة خدمتهم وما بعدها، ويهيئهم لتحمل المسؤولية الوطنية في المستقبل.
كما أن دمج ثقافة خدمة العلم في التعليم الرسمي يتيح بناء وعي متكامل لدى الشباب، يجمع بين الانتماء الوطني والمهارات العملية والقيم الأخلاقية. فهو لا يقتصر على التدريب العسكري، بل يشمل تعليم مهارات الحياة، تطوير القيادة، تعزيز التفكير النقدي، وتنمية القدرة على إدارة الأزمات والكوارث الصحية والاجتماعية. إضافة إلى ذلك، فإن التركيز على استثمار قدرات الشباب الفردية واستثمار خبراتهم المتنوعة يضمن أن يصبح كل مشارك قوة فاعلة، قادر على المساهمة في خدمة وطنه بأقصى إمكانياته.
وبذلك، يصبح الشباب ليسوا مجرد متدربين، بل ركيزة وطنية متكاملة، قادرون على الإسهام الفعلي في بناء مجتمع قوي، متماسك، منتج، ومتجذر في الهوية والانتماء الوطني، مع استعداد كامل لمواجهة تحديات الحاضر والمستقبل بكفاءة وانضباط، مما يجعل هذه الثقافة الاستثمار الأهم في الإنسان الأردني وصونًا حقيقيًا لمصالح الوطن والمجتمع.
إننا في المجلس التمريضي الأردني نؤكد دعمنا الكامل لهذه الرؤية الوطنية، ونرى في إعادة خدمة العلم خطوة رائدة نحو تمكين الشباب، وتعزيز الصحة المجتمعية، وبناء مواطن مسؤول يجمع بين القوة والانتماء والمعرفة. فهذه الخدمة ليست مجرد واجب وطني مؤقت، بل مشروع نهضوي شامل يؤسس لمئوية ثانية أكثر رسوخًا وازدهارًا.
فلتكن خدمة العلم عنوانًا لعهد جديد، تتلاقى فيه قوة الجيش، وحكمة القيادة، ووعي الشباب، وصلابة المجتمع، مع دمج التعليم الأكاديمي، التدريب المهني، الصحة العامة، ومشاركة المرأة، ليخرج الوطن بشباب قادر على بناء مجتمع متماسك، منتج، ومتجذر في الهوية والانتماء الوطني. إنه استثمار حقيقي في الإنسان الأردني، وحصانة وطنية لصحة وسلامة المجتمع.