السمّ المكرّر وفلسفة الدولة في مواجهة التشويه..الشاعر أحمد طناش شطناوي ..رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين/ إربد

مشاركة

مؤاب - في زمن تُصاغ فيه الحروب بأدوات غير تقليدية، وتُختطف فيه الحقيقة من على ألسنة منابر مأجورة، لا بد للدولة أن تعيد إنتاج فلسفتها في مواجهة الكذب، والكذب لا يواجه بالكذب، وإنما بالحقيقة، ولا يواجه بالصراخ، بل بالصبر الطويل والعقل الواثق، وبالمراكمة الهادئة التي لا تُستفز، ولا تُغريها المهاترة.

وها نحن اليوم نعود مجددًا أمام موجة جديدة من التشويه، ظهرت هذه المرة بصورة تمس كرامة الدولة ومبادئها وثوابتها الوطنية، لقد أصبحت منابر الإعلام الدولي وسيلة جديدة لابتزاز الدول، واتهامها بادعاءات لا تمت للحقيقة بصلة، في محاولة لتشويه سمعة الدولة ومؤسساتها، وكأنما المطلوب من الدولة الأردنية أن تبرّر إنسانيتها، وتشرح وطنيتها، وتدفع فواتير الشرف السياسي في زمن التفاهة.

لكن السؤال لا يكمن في صحة الادعاءات، التي تنقضها الوقائع والأرقام والوجدان العربي العام، بل في فلسفة الرد عليه.

فما الذي يعنيه أن تُشوَّه سمعة الدولة؟

وما الذي ينبغي أن يكون عليه ردّها وهي تواجه الأكاذيب؟

وهل تسقط الدول حقًا من كلمات، أم تصعد من تحت الرماد بمواقف لا تهتز؟

 

أولاً: إن ما يحدث اليوم ليس جديدًا؛ فكل دولة ذات موقف ثابت ومستقل تتعرض لمحاولات تشويه، والتاريخ يعلمنا أن الدول التي غابت عن الفعل، غابت عن الذاكرة؛ أما الأردن فقد ظل فاعلًا في كل ملف شائك، من فلسطين إلى اللاجئين إلى حماية القدس، إلى مساندة الأهل في غزة، لهذا تحديدًا تُستهدف صورته، ولأن هناك من يريد تمهيد الطريق لمشاريع مشبوهة لا تمرّ إلا على ركام الكبار.

 

ثانيًا: في عالم العلاقات الدولية، قد يُشترى النفوذ بالمال، لكن الكرامة لا تشترى؛ والأردن لم يكن يومًا تاجر مواقف، بل صاحب موقف ثابت وراسخ، ولهذا لا يفسد عليه سمعة المأجورين؛ الذين يدفعون ثمنًا لتمرير أكاذيبهم، ولا يعرفون أن الثمن الحقيقي يُدفع بالصمت حين يكون الكلام عبثًا، ويُدفع بالفعل حين يكون الدفاع عبورًا إلى المستقبل، لا ارتكاسًا إلى ردود الأفعال.

 

ثالثًا: إن الإساءة إلى الدولة ليست إساءة إلى إدارة أو حكومة أو جهاز؛ إنها محاولة لإضعاف الفكرة، لضرب الإجماع، لزرع الشك في المؤسسات وفي العلاقة بين المواطن ووطنه؛ وهنا تظهر الفلسفة العميقة للدولة الأردنية؛ والتي تتجلى بالثقة بالنفس، والمراكمة على الشرعية الأخلاقية والتاريخية، وعدم الانجرار إلى مربّعات الصراخ، بل الردّ بالفعل المتراكم والصدق الصامت.

 

رابعًا: إن الصبر ليس استسلامًا؛ بل هو تعبير عن امتلاك زمام المبادرة؛ فالدولة الأردنية لا تردّ على كل من هبّ ودبّ، لأنها تعرف أن مشروعها الوطني أكبر من أن يُهدم بتقرير صحفي أو تغريدة أو فيديو يقتات على الألم الفلسطيني ليربح بعض المتابعين؛ إن فلسفة الدولة ليست في تبرير فعل الخير، بل في جعله فعلا طبيعيًا نابعا من مبدأ وعقيدة، لا بطولة مؤقتة.

 

خامسًا: إن الحلّ لا يكون بالرد الإعلامي فحسب، بل ببناء وعي جماعي وزرع ثقة المواطن بمؤسسات الوطن وأجهزته؛ فالدولة التي تواجه الإشاعة بالحقيقة، وتواجه السطحية بالمعرفة، وتواجه الكذب بالشفافية، هي دولة تمتلك مناعة مجتمعية تحصّنها ضد الاختراق المعنوي؛ والمناعة لا تُبنى في لحظة، بل تُغرس في التعليم والإعلام والثقافة وفي نماذج الحكم الرشيد.

 

خاتمة: إن الإساءات المتكررة التي تتعرض لها الدولة الأردنية لم تنتج عن أخطاء، بل عن مواقف جوهرية؛ فالدولة التي لم تبع موقفها، ولم تخضع للابتزاز، ولم تساوم على قضاياها ومبادئها، ستبقى مستهدفة.

 

لكن الدولة اليوم وهي تقف على أعتاب قرن جديد، تعرف أنها لا تحرس حدود الجغرافيا فحسب، بل تحرس المعنى، وتحمل هوية أمة لم تنكسر.

فالأردن لا يختزل في كونه دولة فحسب، بل يتمثل في فكرة واضحة، ورسالة إنسانية ينبغي أن تُحمى وتُصان

فكرة أن تظل السيادة أعلى من المساومة، والكرامة أقوى من الضجيج.

الكلمات المفتاحية