crossorigin="anonymous">

الشراكة بين العام و الخاص : الصحة أرض الفرص...بقلم : الدكتور محمد رسول الطراونة

مشاركة

مؤاب - في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه الأنظمة الصحية حول العالم، من تزايد الكثافة السكانية إلى ارتفاع تكاليف الرعاية الصحية وعدم كفاية البنية التحتية ونقص الكوادر البشرية ذات الاختصاصات الدقيقة، برزت الشراكة بين القطاعين العام والخاص كحل إستراتيجي لتعزيز الكفاءة وتحسين الخدمات، هذه الشراكات ليست مجرد تعاون تمويلي فحسب، بل هي نموذج متكامل يُوظف نقاط قوة كل قطاع لتحقيق أهداف صحية مستدامة. تعتمد شراكات القطاعين العام والخاص في الصحة على عدة آليات، منها: تطوير البنية التحتية مثل بناء المستشفيات والمراكز الطبية وتجهيزها بواسطة القطاع الخاص، مع احتفاظ الحكومة بالإشراف، أو إدارة الخدمات كالتعاقد مع شركات خاصة لإدارة عمليات التشغيل في المرافق العامة، ويمكن أن تكون الشراكة في مجال الابتكار التكنولوجي: كتطوير منصات التطبيب عن بُعد أو استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص. وقد تكون الشراكة على شكل التمويل المشترك، حيث يشارك القطاع الخاص في تحمل التكاليف مقابل عوائد مُتفق عليها.

تكمن أهمية هذه الشراكات في سد الفجوات التمويلية، ونقل او تبادل الخبرات الفنية والادارية ، ورفع جودة الخدمات عبر المنافسة، مع الحفاظ على دور الدولة في ضمان العدالة ووصول الخدمات الصحية إلى الفئات الهشة.

من التجارب الاقليمية الرائدة في هذا المجال ، تجربة دولة الإمارات في حقل التطبيب عن بُعد حيث أطلقت الإمارات خلال جائحة كوفيد-19 مبادرة " المنصة الوطنية للتطبيب عن بُعد"، بالشراكة مع شركات تكنولوجيا محلية وعالمية مثل "مايكروسوفت" و" ثريا "، حيث ساهمت المنصة في خفض الازدحام بالمستشفيات بنسبة 40%، وتم تقديم استشارات طبية لأكثر من مليون مريض، هذا النموذج يُظهر كيف يمكن للشراكات تسريع التحول الرقمي في القطاع الصحي.

وكذلك تجربة السعودية " الخصخصة لتعزيز الكفاءة " ضمن رؤية 2030،اذ أطلقت السعودية برنامج خصخصة قطاع الصحة، حيث تعاقدت مع شركات مثل "أكورد" و"جونز هوبكنز" لإدارة مستشفيات حكومية، أدى ذلك إلى تحسين مؤشرات الأداء بنسبة 30% في بعض المنشآت، عبر تطبيق معايير إدارة حديثة وتقليص فترات الانتظار.

اما التجربة المصرية فقد تمثلت في شراكات البنية التحتية في مدينة الشيخ زايد، فقد تم إنشاء مستشفى "كليوباترا" بالتعاون بين وزارة الصحة وشركة مصرية خاصة، تميز المشروع بتقاسم التكاليف، حيث قدمت الحكومة الأرض والتراخيص، بينما تولى القطاع الخاص البناء والتشغيل،بعد فترة قصيرة أصبح المستشفى مرجعاً للأمراض المزمنة، ويخدم أكثر من 500 ألف مريض سنوياً . ومن النماذج العالمية الملهمة ، تلك التجربة الهندية ضمن مبادرة " الصحة الوطنية " دمجت الهند القطاع الخاص في "المهمة الوطنية للصحة" لتوسيع تغطية الخدمات الصحية في المناطق الريفية،عبر شراكات مع منظمات مثل "جايكا" اليابانية، حيث تم تدريب آلاف الفرق الطبية من مختلف الكوادر الطبية وتجهيز العديد من العيادات المتنقلة، مما خفض معدل الوفيات بالأمراض المعدية بنسبة 25%.

اما البرازيل ، فقد اشركت القطاع الخاص في الرعاية الصحية الأولية ، حيث تعاقدت الحكومة في ولاية ساو باولو مع مؤسسات خاصة لإدارة مراكز الرعاية الصحية الأولية وأدى ذلك إلى زيادة كفاءة توزيع الأدوية بنسبة 50%، وتحسين رضا المرضى عبر تطبيق أنظمة مراقبة جودة صارمة.

رواندا، تبنت شراكات لمكافحة السرطان بالتعاون مع منظمة "Partners In Health" الأمريكية ، فأنشأت مركز " بوتارو" لأورام الأطفال، الذي وفر علاجاً مجانياً لأكثر من 2000 طفل سنوياً، اعتمد هذا النموذج على تمويل مشترك وتدريب الكوادر المحلية، مما جعله مثالاً ناجحاً في إفريقيا.

رغم النجاحات، تواجه الشراكات بين القطاعين العام والخاص في كثير من بلدان العالم تحديات مثل تعارض الأرباح مع الأهداف الاجتماعية، أو نقص الشفافية. لذا، يجب وضع إطار قانوني واضح يُحدد الأدوار والمسؤوليات ، اعتماد معايير رقابية تضمن الجودة وعدم إهمال الفقراء، تشجيع الشراكات في مجالات الابتكار وليس البنية التحتية فقط وتعزيز مشاركة المجتمع المدني لضمان المساءلة.

الشراكات بين القطاعين العام والخاص في مجال الصحة ليست حلاً سحرياً، لكنها إحدى الأدوات الحيوية لمواجهة تعقيدات القرن الحادي والعشرين والنماذج الناجحة في العالم والاقليم تثبت أن المفتاح يكمن في الموازنة بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، مع بناء الثقة عبر الشفافية. كما قال نيلسون مانديلا: "الصحة ليست امتيازاً، بل حق أساسي"، والشراكات المسؤولة قد تكون الجسر لتحقيق هذا الحق للجميع. هذه الشراكات تُعبّر عن تحالف بين طرفين يتجاوز العلاقة التعاقدية التقليدية ويُظهر ما لدى الشركاء من قدرات وكفاءة لتحقيق المنافع المشتركة ، اذ تشير التقارير الى أن الصورة السيئة للرعاية الصحية في القطاع العام وانخفاض جودتها مقارنة بالقطاع الخاص الذي ينظر إليه على أنه أفضل ويحوز على مستوى أعلى من رضا العملاء هي العامل الاساسي وراء اتساع نطاق القطاع الصحي الخاص .

خلاصة القول : ما زال هناك متسع من الوقت لتصحيح العلاقة بين القطاعين العام والخاص ، و يتطلب الامر توفير اطار تنظيمي يكفل التطبيق الآمن للشراكة بينهما مع استمرار الحوار بين القطاعين العام مع الخاص لان الصحة كانت وما تزال ارض الفرص .

*امين عام المجلس الصحي العالي السابق

 

 

 

 

الكلمات المفتاحية