"تصليحه!"

مشاركة

بقلم: عبد السلام الطراونة

مثل حصّاد مُتعب... داهمه حلم رقيق ظهيرة يوم قائظ.. انا كذلك حصاد مثله.. ومتعب مثله... وحالم مثله... لم يفلح "قالوشي" أقصد منجلى أو قلمي إن شئت في حصاد شيء سوى سنابل من الانتماء القومي،هي بمثابة تحويشة العمر الغاليه على قلبي ووجداني!! واغمار من الوجع الممض... وبيادر من السأم والغربة!! لذا وجدتني في ساعات وحدتي وخلوتي ألوذ إلى أيام الزمن الجميل هربًا من هول هذا الزمان الرديء... زمن الكورونا... والتباعد... والنفاق الفاضح.. والتزلف الواضح.. زمن الفساد والإفساد والهمبكات والوعود الفارغه والذمم الواسعة!!

حاصله.. أحن شوقًا إلى ستينات القرن الماضي حين كنت وأترابي القوميين من أبناء العمومة والأصدقاء نلتقى عصر كل خميس في منزل اكبرنا سنًا المرحوم الأستاذ صالح فارس الطراونة (ابو سامر) المدير في وزارة العمل آنذاك.. وكان جدول أعمال اللقاء الأسبوعي مفتوحًا بحيث يبدأ في السياسة والشأن القومي وتحليل مقالات الأستاذ محمد حسنين هيكل المقرب من النظام المصري والبحث في ثناياها عمّا تيسر من تسريبات واسرار تتعلق بالتوجهات السياسية والقرارات الخفية وبالونات الاختبار لدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

وكان اللقاء الذي يديره بمهارة فائقة الراحل الكبير والقومي الرائع معالي الاستاذ محمد فارس الطراونة (أبو جاسم) يجري بسلاسة وسهولة ودون تشنج وذلك لسبب بسيط وهو أننا جميعًا قوميون وأفكارنا متطابقة ولا أظن أنني بحاجة إلى إضافة المزيد على هذا الصعيد.

وعندما يحين موعد العشاء نقفل باب الحديث ونتوجه سيرًا على الأقدام من منزل (أبو سامر) والكائن في أعلى طلوع (المصدار) إلى أحد المطاعم في وسط البلد... وما إن نصل هناك حتى يرحب بنا عمال المطعم أو الندل (جمع نادل) ويفردوا لنا طاولتين أو ثلاثة لتستوعب مجموعتنا نحن "العزابية" الذين نخلق البهجة والسرور ونصنع الفرح والحركة حال وصولنا.. الأمر الذي جعل عُمال ونُدل المطعم يتسابقون في الظفر بخدمتنا نظرًا لجو البهجة الذي نضفيه بالاضافة إلى الإكرامية وهي بالمناسبة بضعة قروش آنذاك!! فيسارع هؤلاء العمال باحضار صحون الحمص والفول وثالثهما الشاي بالنعناع. وكانت الأمور في العادة تسير على ما يرام إلى أن يأتي وقت "التصليحه" التي يعرفها الغلابى والعزابية جيدًا لأنهم ذاقوا طعمها!!

أما الذين لا يعرفونها من "المِسْعَدين" فإني أقول لهم بأن طيبة الذكر التصليحه هي ملعقة أو اثنتان من الحمص أو الفول مع رشّة من الزيت تقدم مجانًا بعد انتهاء الصحن الأول وذلك كملحق مجاني لكي يصل الزبون إلى حد الشبع... وكانت التصليحه، ما غيرها، ومنذ الستينات موضة مألوفة ومتداولة على نطاق واسع لأنها تشكل البند الرئيس في سياق العقد غير المكتوب بين المطعم ورواده.. لذلك يقدمها المطعم عن طيبة خاطر، أو هكذا يبدو لنا.. ويستقبلها الزبون كحق مفروض له دون أن يتحمل منّة أو جميلًا من أحد!!

وما إن نفرغ من الصحن الأول ونقدم أوراق اعتمادنا على طبق فارغ، طلبًا للتصليحه حتى أرى الشرر وقد تطاير من عيون المرحوم صالح الطراونة (أبو سامر) حيث أنه يضيق ذرعًا بهذه التصليحه وطالبي القرب منها.

ويبدأ الحديث من طرفه بحوارٍ مازحٍ يقفُ على تخوم الجد ويقول بلهجته المحببه: يا عيال عمي... بطلوا شغلة ها التصليحه... والله ما أنا حابها لكم.. لأنها مش لايقه بحقكم... ونضحك وينتهي الأمر!!!

وكان حينما يزداد غضبه في بعض الأحيان ويدّب الصوت وهو يرى الصحون الطائرة نحو التصليحه نلجأ إلى عاملٍ لبقٍ يفهم مرادنا على الطاير فيقوم برفع صوت الراديو في المطعم فيطغى بذلك صوتُ الطربِ على حجم الغضب وتضيع الطاسه ونظفر نحن بصحون التصليحه وسرعان ما ينسى الأمر ويقول ضاحكًا: شوه بِدّي أساوي فيكو.. والله ما أنا قادر عليكو!! وينتهي الأمر بتبادل الضحكات!!!

حاصله... ما علينا وددت القول بأنني أتذكر مشهد "التصليحه" والحنق المرافق لطلب القرب منها كلما جاء ذكر التعديلات الوزارية إذ أن وجه الشبه متطابق بين التصليحتين الغذائية والوزارية أو بتعبير أدق بين تصليحة (الغلابى) وتصليحة (المسعدين) فالشبه متطابق من حيث التكتيك والمضمون والهدف... على افتراض أننا لو وصلنا إلى الهدف والاكتفاء من الجولة الأولى لما احتجنا أبدًا إلى تصليحةٍ ثانية او ثالثه او رابعه!! ولو كان لي من كلمة تُسمع لدى السادة أصحاب الدولة في بلدنا لقلت لهم أن الناس يضيقون ذرعًا بالتعديلات الوزارية ولسان حالهم يقول أن اخشى ما نخشاه بأن يأتي التعديل الوزاري في الغالب بوزير لم يقرأ الدستور الأردني بعد.. أو آخر هبط للتو بالباراشوت ولا ندري من أين.. أو ثالث يعتبر أن تاريخ الأردن بدأ مع هطول معاليه على كرسي الوزارة.. او رابع لا يتميز بالكفاءة وكل همه ممارسة التنمر على الناس.. أو خامس بالغ في النفاق والتزلف وجاء وقت سداد الفاتورة.. أو سادس مسنود ظهره قوي لكن أداءه ضعيف.. أو واحد حالفه الحظ نتيجة خطأ في الاسم... أو وزير يندرج تحت فئة (مادح نفسه يقرؤك السلام) وليس بيننا وبينه لغة مشتركه.. أو وزير لو امتحنته اين تقع كفيراز (تشفيراز) أو حمرا حمد وبيوضه وخشيبه وقفيقف لكانت النتيجة صفراً مُكعباً !! أو.. أو.. أو!! وعليَّ أن استدرك وأقول بأن بعض أصحاب المعالي جديرون بالتقدير والثقة.

فيا أصحاب الدولة... ارحمونا.. وارفقوا بحالنا وحال الوطن وحال فاتورة التقاعد.. واحسنوا اختيار أصحاب المعالي من الجولة الأولى كي لا نكون بحاجة إلى التصليحه الوزارية في وطننا الصابر العزيز.. والمبتلى بمصائب لا حصر لها!!

وأختتم بواقعه ومقولة.. الواقعة حدثت عند تشكيل الشهيد وصفي التل طيب الله ثراه لحكومته الأولى حيث تطوع كثيرون لتزكية أحدهم من أجل توزيره قائلين أنه حسن السلوك وطيب المعشر ومن عائلة مرموقة... فزجرهم وصفي قائلًا: يا اخوان يإمكانكم مصاهرة هذا الرجل وفقًا لتلك الصفات اما خدمة الوطن فلها مواصفات أخرى أعرفها انا جيدًا ولست بحاجة لتنظير أو نصيحة أحد!! وفي هذا السياق حدثني صديقي معالي الدكتور منذر حدادين عن قصة طريفه غيّرت مجرى حياته العمليه وقال: كنت أعيش مبسوطاً وسعيداً في الولايات المتحده الامريكيه في فترة الستينات واوائل السبعينات من القرن الماضي.. وكنت أحظى بالدلال من (جامعة واشنطن) في مدينة سياتل والتي ابتعثتني عدة مرات .. واحظى ايضاً بدلال مماثل من مركز بحوث متقدم في منظقة (شيكاغو) بولاية (الينوي) والذي اختارني من بين خمسين متقدماً لشغل الوظيفة لانني الأول عليهم جميعاً!! اما الدلال الاكبر فقد كنت أحظى به من انسبائي الامريكان بعد ان خطبت ابنتهم وقرة عيونهم والتي اصبحت فيما بعد ام عيالي!!

وظللت انعم بتلك السعادة وذاك الدلال الى أن حمل البريد لي ذات صباح برقية من ارض الوطن لا أعرف كيف استدل مرسلها على عنواني!!

وتقول البرقيه: ( منذر حدادين – شيكاغو – بعد التحيه .. عُدْ الى أرض الوطن حالاً .. التوقيع:  رئيس الوزراء وصفي التل)!!

وانتابتني الحيره ازاء هذه البرقيه التي كانت بمثابة مذكرة جلب لكنها للامانه مذكرة تلامس شغاف قلبي لسببين أولهما ان هدفها المعلن هو عودتي الى الاردن لكي اخدم بلدي وهذا شرف عظيم لي .. وثانيهما أن المرسل هو وصفي التل (ابو ندهتين) الذي أُحب!!

وبعد ان استفقت من هول صدمة مذكرة الجلب الحبيبه تدارست الامر مع خطيبتي وانسبائي الامريكان الذين اتفقت معهم على الاستقرار في الولايات المتحده بعد أن اخذت البطاقة الخضراء فماذا عساني أقول لهم؟!

لقد قلت لهم وبصريح العباره ان وطني يناديني وانا لا أملك الاّ ان أُلبى هذا النداء .. فباركوا مسعاي الطيب .. واتفقت مع خطيبتي بأن اتركها عند اهلها في (شيكاغو) واحجز على اول طائرة مغادرة الى الاردن على أن اعود بعد فترة وجيزه الى الولايات المتحده وننظم مراسيم العرس بسرعة وننطلق معاً الى الاردن للعمل والاستقرار هناك!!

وهكذا كان ..! المهم وصلت الى (عمان) والتقيت في اليوم التالي مع دولة الرئيس (وصفي التل) وقلت له: دولة الرئيس ..ها انذا بين يديك بناءً على طلبك!! فردّ على الفور : عفيه يا النشمي!! هذي هقوتي فيك!!

واستلمت العمل فوراً في الجمعية العلميه الملكيه في العام 1970 وبعد ذلك تم استحداث مديرية البحث والتطوير في وزارة الاشغال العامه واسندت لي مهمة ادارتها.. وباختصار شديد اذكر انه بعد حوالي سبعة وعشرين عاماً من استدعائي بموجب مذكرة الجلب الحبيبه الى قلبي تسلمت حقيبة وزارة المياه والري!!

   اما عن المقوله التي وعدتكم بها قبل عدة سطور فقد وردت في كتاب "التبر المسبوك" للإمام ابو حامد الغزالي الصادر عام (505) للهجرة حول مواصفات الوزراء حين قال أن الوزير الجاهل وغير الكفؤ مثله كمثل الغيم الكاذب الذي يبدو ويظهر.. ولا يندي ولا يمطر!!

فارحمونا يا أصحاب الدولة من ازدحام الغيوم المخادعة وغير الماطرة التي أصبحت أكثر من الهم على القلب.. وارفقوا بحالنا يا جماعة الخير وارفقوا بحال الوطن!! وارفقوا بفاتورة التقاعد.. وارفقوا بالغلابى والمساكين والجوعى الذين يموتون قهراً في اليوم مائة مره!!

 

الكلمات المفتاحية